العالم بزمانه ...

بحثنا فلم نجد الكلام الّذي يليق بسماحته، والترتيب والتنسيق لهذا الكلام الّذي نريد له أن يعكس صورة هذه القامة الشامخة، ويرسم لنا كنه معرفته، ويمكّنّنا من الإهتداء إلى تأثيرها ونفوذها في النّاس، وفي الأشياء، وفي العلماء الأجلّاء، وفي الشخصيّات الحاكمة. إنّه كان كالماء والهواء لاتستقيم الحياة بدونهما، إنّه كان كالشّمس تطلع على الجميع ويستفيد منها الجميع، أي جميع الموجودات، وكان كالغيث يحيي الأرض ويسقي نباتَها، وكان كالجبال الرّاسيات ووظيفتها بالنسبة الى الأرض لا تخفى على أحدٍ ولا يمكن تصوّر الأرض بدونها، لأنّه كان وتد الأوتاد حقاً، وكان كالبحر غموضاً ورهبةً وكرماً وفوائد لاحصر لها، كان كالسّماء في الليلة المقمرة، يحلو للناس التطلّع إليها والتمتُّع بالنّظر إليها.

هذا الرّجل العظيم على الرّغم من استغراقه في الأمور العباديّة وتعمّقه الغزير في الأُمور العلميّة إلا أنّه لم يكن لينفكّ عن الاهتمام بأمور المسلمين في شتّى أنحاء العالم، بل كان له إرشادات وتوجيهات للسّياسيّين نابعة من عمق فطنته الإلهيّة، إذ كان سماحته ينظر بنور الله إلى شتّى الأُمور فضلاً عن السّياسيّة منها. وممّا يشهد على ذلك رجوع كبار القيادات السّياسيّة لسماحته في معضلات الأمور ليستفيدوا من بُعدِ النّظر الثّاقب لدى سماحته، وهذا ممّا تواتر ذكره بين الكبار من العلماء والسّياسيّين، ومن بين هؤلاء كان هو آية الله السيّد الخميني(قدّس سرّه) الّذي كان منذ بداية وصول سماحة آية الله الشّيخ البهجة من النّجف الأشرف إلى قم المقدّسة، هو أوّلُ شخص يتردّد على سماحة الشّيخ قبل الجميع والأكثر من الجميع، وكان يأتي إلى بيت سماحة الشّيخ البهجة أسبوعيّاً للاستفادة من إرشادات سماحته[1]، وكان ذلك دأبه حتّى بعد كِبَرِ سنّه ورجوعه من المنفى، حيث كان يأتي إلى بيت الشّيخ البهجة (البالغ مناه) ليستشيره في أُمور كثيرة لا سيما في الأمور السّياسيّة، فكان يهتمّ اهتماماً خاصّاً بسماحة آية الله الشّيخ البهجة (البالغ مناه)، وفي هذا المضمار ينقل آية الله الشّيخ المصباح اليزدي:

«قال أحد أصدقائنا ـ والّذي كان كثيراً ما يذهب للسيّد الإمام، وهو جناب الشّيخ المسعودي الخميني الأمين العام لحرم السّيّدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها:

«في بعض الأوقات كان يحصل مع السّيّد الإمام بعض المشاكل الخاصّة، أو يصيبه المرض، فيرسلني إلى سماحة الشّيخ البهجة، وحصل عدّة مرّات أن ذهبت إلى سماحته وكان سماحته يأمرنا بذبح بعض الخراف، وكان الإمام يأمرني أن أقوم بتنفيذ توصيات الشّيخ البهجة فأشتري خروفاً أو خروفين وأذبحهم»[2].

كما وينقل آية الله الشّيخ المسعودي الخميني:

 

«لقد كنت في خدمة الإمام الخميني لمدّة أربع أو خمس سنوات، أذكر أنّ سماحته لمرّتين أو ثلاث قال لي: غداً صباحاً سنذهب لمنزل الشّيخ البهجة. وكنّا في اليوم التّالي نصل لخدمة آية الله الشّيخ البهجة، إلى نفس المنزل الّذي يعيش فيه سماحته الآن، وفي نفس الغرفة الأولى وبنفس هذا الفرش الّذي هو الآن موجودٌ، كنّا نجلس عدّة دقائق، بعدها يشير لي الإمام وأخرج أنا من الحجرة، ويبقى هذان العلمان يتحدّثان مع بعضهما لمدّة نصف ساعة، ثم يأتي الإمام ونذهب. أمّا حول ماذا كانا يتحادثان؟ أنا لا أعلم.

مرّتين أو ثلاثاً في أيّامِ النّهضة (سنة ١٣٤١ أو ١٣٤٢ هـ . ش) قال لي الشّيخ البهجة: قل للسيّد الخميني غداً صباحاً وفي السّاعة كذا أن يذبح خروفين، ذهبت وقلت للإمام الخميني وسماحته بدون تريّث قال لي: قل للقصّاب الفلاني أن يذبح خروفين نيابة عنّا ونعطيه ثمنه لاحقاً.

إحدى المرات أيضاً قال آية الله الشّيخ البهجة: قل للسيّد الخميني أن يذبح ثلاثة خراف، عندما أوصلت الرّسالة للإمام، وبدون تريّث أمر بذبح ثلاثة خراف.

هذه كانت مسائل فيما بينهم، ونحن كنّا نرى ظاهرها فقط، لكن ماذا كان باطن الأمور؟ لا اطّلاع لدينا»[3].

ويضيف آية الله الشّيخ المسعودي الخميني:

«إحدى المرّات عندما كان الإمام الخميني في جماران، قال لي الشّيخ البهجة: لديّ رسالة صغيرة، أوصلها للسيّد[الخميني]، أخذت الرّسالة ووضعتها في ظرف وأعطيتها للإمام، فقرأها الإمام وقال: بلّغوه سلامي وقولوا له: «على عيني، سوف أُنفّذ!».

وينقل الشّيخ علي نجل سماحة الشّيخ البهجة (البالغ مناه):

«في إحدى اللّيالي طُرق الباب وكان أبي مشغولاً بالمطالعة، فأردت أن أذهب لأفتح الباب، لأنّه كان من العادة إذا طُرق الباب ليلاً أن أفتح الباب بنفسي ولا أدَعُ والدي يقوم بذلك، ولكن عندما سمع والدي صوت الباب أشار إليّ: اِبقَ مكانك! وذهب سماحته بنفسه ليفتح الباب، فقَلِقتُ لأنّ الوضع كان مخيفاً في تلك الأيّام، واستغربت كثيراً لِمَ ذهب والدي بنفسه ليفتح الباب، فبينما أنا أفكّر أن أذهب خلفه وتحرّكت نحو الباب فإذا بسماحته قد رجع، ولكن كان قلقاً جدّاً وبدأ يمشي في الحجرة، فسألته: من كان؟ ماالّذي حصل لم أنتم قلقون؟ فقال لي: لقد أخذوه! فقلت: أخذوا من؟ فقال: هو، هو! وأشار إليّ، أي آية الله السيّد الخميني، فقلت له: لا هذه الأمور مجرّد إشاعة! فقال لي: لا، لقد أخذوه، لقد أخذوه، إلى أن طلع الصّباح ورجع والدي من زيارة حرم السّيدة المعصومة (عليها السّلام)، وكان قد ظهر على وجه سماحته الاستبشار، فقلت لوالدي عندما رأيته مستبشراً: هل رأيتم كيف أنّ الأمر كان مجرّد إشاعةً؟ فأجابني: كلّا، بل الشّخص الّذي طرق الباب البارحة كان هو الشّيخ حسن صانعي وقال: إنّ آية الله السيّد الخميني في الإسعاف ووضعه خطير جدّاً، ومعنا أيضاً في الإسعاف السيّد الخامنئي، ونريد أن نذهب إلى المستشفى في طهران، ولكن السيّد الخميني أوقف السيّارة وأمرني أن أبلّغكم بذلك وأطلب منكم الدّعاء له. يضيف نجل سماحة الشّيخ: ثمّ قال لي والدي: إنّ الله ترحّم على هؤلاء النّاس عشرة أعوام! وبعد عشرة أعوام بالضّبط كانت وفاة آية الله السيّد الخميني(قدّس سرّه)».

و ينقل آية الله الشيخ المصباح اليزدي أن آية الله السيد الخميني (قدّس سرّه) كان يرجع في حوائجه و معضلاته الخاصّة إلى آية الله الشيخ البهجة (البالغ مناه). نعم، فقد كان آية الله السيد الخميني (قدّس سرّه) عندما يَعرِض له أمرٌ مهمٌّ على كافّة الصعد فإنّه يرجع إلى آية الله الشيخ البهجة (البالغ مناه) و يأمر الآخرين بالرجوع لسماحته أيضاً، و من بين القضايا المهمّة الّتي تشير إلى ذلك ما حصل في إحدى المعارك الكبيرة و المهمّة أثناء الحرب العراقية الإيرانية، حيث اشتدّت المواجهة، و كان السيد الصیّاد الشيرازي قائد الجیش الإيراني قلقاً من حدّة المواجهة، فاتصل وقتها بقائد الثورة آية الله السيد الخميني (قدّس سرّه) و أخبره أن الوضع سيّءٌ للغاية و أنّ عدد الشهداء كبير، و التمس منه حلّاً و فرجاً لذلك، فأجابه آية الله السید الخميني (قدّس سرّه): عليكم أن ترجعوا إلى الشيخ البهجة و تسألوه أن يدعو لكم. فاتصل السيد الصياد الشيرازي هاتفياً بمنزل الشيخ البهجة و كان الوقت متأخراً و بيّن لهم تلك الظروف العصيبة، و ذكر لهم ما طلب منه آية الله السيد الخميني و أرشده إليه، و طلب أيضاً من نجل سماحة الشيخ أن يخبر والده بذلك و يطلب منه الحلّ لأجلهم!

بعد لحظات، و إذا بالحال يتبدّل، فقد حلّ الرعب في قلوب جنود الجيش الصدّامي اللعين، و بدأوا يتراجعون إلى أن بات التقهقر واضحاً في صفوفهم! و كأنّهم كانوا يهربون من شيء لكنّه غير معلوم! و اتّصل قائد الجيش بمنزل الشيخ البهجة مرّة أخرى ليبشّرهم بالفرج الّذي حلّ بهم.

 

وينقل أيضاً الشّيخ علي نجل سماحة الشّيخ البهجة (البالغ مناه):

«في إحدى زيارات السيّد أمين الخوئي حفيد آية الله السيّد الخوئي زعيم الحوزة العلميّة في النّجف الأشرف، قال والدي له: بلّغوا جدّكم أن يخرج من النّجف سنتين!

فقال السيّد أمين لسماحته: هذا لا يمكن، لا يقبل!

فقال والدي له: بلّغوه أن يخرج من النّجف لمدّة سنة واحدة!

فقال السيّد أمين: هذا لا يمكن أيضاً لا يقبل!

فقال له والدي: بلّغوه ليخرج من النّجف لستّة أشهر!

فقال السيّد أمين الخوئي لسماحته: هذا لا يمكن أيضاً، لأنّه لا يقبل!

فقال له والدي: بلّغوه ليخرج من النّجف لبضعة أشهر! وألحّ والدي في الطّلب.

فقال السيّد أمين الخوئي لوالدي: لو سمحتم أن نبلّغ جدّي أنّه قد حصل لسماحتكم مكاشفة وفي هذه الحالة يقبل!

فقال سماحة الشّيخ له: دعك من هذا الكلام! دعك من هذا الكلام! لا تقولوا له هذا، فقط قولوا له أن يخرج من النّجف!

ويضيف الشّيخ علي البهجة أنّه بعد وفاة آية الله السيّد الخوئي(قدّس سرّه) سألت والدي: لماذا كنتم تصرّون على خروج السيّد الخوئي من النّجف؟

فأجاب والدي: مِنْ أجْلِ ما قد صنعوه مع سماحته من الإساءة والأذى وأخذه على عربةٍ إلى صدّام اللّعين، و... .

فتحيّرت كيف أَخبَر والدي عن هذه الأمور في حين أنّها لم تكن قامت الانتفاضة الشّعبانية بعد، وأيضاً كيف علم والدي بهذه الأمور على الرّغم من أنّه لم يخبره أحدٌ قطّ بما جرى مع السيّد الخوئي!».

أما بالنّسبة للمرشد الأعلى للثّورة آية الله السيّد علي الخامنئي (حفظه الله) وفي أول لقاء له بسماحة الشّيخ البهجة(قدّس سرّه) بعد التصدّي لمقام القيادة سأل سماحته:

«ماذا يجب أن أفعل؟

فأطرق سماحة الشّيخ إلى الأرض لدقائق، وبعدها رفع رأسه وقال:

«الحمدلله أنّكم مستحضرون للمباني، إذا عملتم طبق الموازين الّتي تصلون إليها، أنا أضمن أن لا يتركوكم وحيداً!»[4].

وينقل آية الله الشّيخ المسعودي الخميني:

«عندما نقلت للمرشد الأعلى للثّورة السيّد الخامنئي كلام سماحة الشّيخ البهجة حول لزوم تجديد تذهيب قبّة حرم السيّدة المعصومة (عليها السّلام) قال لي آية الله السيّد الخامنئي: كلُّ ما يقوله الشّيخ البهجة ننفّذه ونحن مُغْمضُو العين».

وينقل أحد الثّقات أنّه سمعنا قبل أكثر من خمسة عشر عاماً أنّ سماحة آية الله الخامنئي يقول:

«أنا لديّ علاقة مع سماحة آية الله العظمى الشّيخ البهجة منذ عشرين سنة تقريباً، وأنا أستفيد من سماحته»[5].

وينقل الشّيخ الرّيشهري في سبب تعلُّقه بسماحة الشّيخ البهجة:

«بتاريخ ٢٨/١٢/١٣٦٩ هـ . ش التقيت بالمرشد الأعلى للثّورة، في ذاك اللّقاء وقبل أن أتحدّث، أشار سماحته إلى أحد أعضاء التّعبئة الشّعبيّة (البسيج)، والّذي كان قد كتب رسالةً لسماحته، وكان فيها أنّه خلال مدّةِ أسره في الحرب المفروضة من نظام البعث العراقيّ، وبسبب زيادة المواظبة والمراقبة، حتّى بالنّسبة للخواطر الذّهنيّة، فقد أصبح مورد عناية الباري تعالى، وظهرت له بعض الحالات، ولكن حتّى يصل للمقصد النّهائيّ ـ أي المعرفة الشّهودية للحقّ ـ يحتاج إلى مرشدٍ لذلك، وطلب من سماحته الإرشاد، وسماحته أجابه: أنا لست ذاك الشّخص الّذي تبحث عنه، لتحصيل المراد اذهب وراء الشّيخ البهجة...

كلام المرشد الأعلى للثّورة، وبعض الكرامات الّتي كنت قد سمعتها حول آية الله الشّيخ البهجة صار موجباً أن أكون بصدد إيجاد الفرصة للصّلة مع هذا العالم الحكيم وأن أستفيد من سماحته»[6].

أجل فقد كان سماحته مهتمّاً بكافة القضايا والمسائل الّتي تَمُتُّ للتّشيع وحفظ بيضته بصلة، فكان أباً رؤوفاً للشّيعة في أنحاء العالم، ومن جملة ذلك لما أرسل سماحته إلى مرشد الأعلى للثّورة آية الله السيّد الخامنئي (حفظه الله) قبل وقوع إحدى الحوادث بشهور عدّة، والّتي كان لها وَقعٌ خطير جدّاً في إيران سنة ١٤٣٠هـ . ق والّتي كان أثرها السّلبي سيرتدّ على الإسلام عامّة وعلى التّشيع خاصّة فقال سماحته: «إنّ هناك خطراً كبيراً محدقاً، وقد قمتُ بكلِّ ما يمكنني ولكن بَقيَتْ هناك أُمور يجب أن تقوموا بها أنتم!»، وبدوره قام آية الله السيّد الخامنئي ببعض الخطوات المهمّة للحيلولة دون تفشّي هذا الخطر، الّذي قد أحاط فعلاً بالأمّة، واستمرّ آية الله السيّد الخامنئي (حفظه الله) مؤدّياً دوره في وأد هذا الخطر الّذي كاد أن يهزّ كيان التّشيع، وفي ذلك إشارة إلى ما حصل بعد الانتخابات في إيران سنة ١٤٣٠ هـ . ق، والّتي جعلت إيران في خطر كبير ممّا جعل الخطّر يهدد الشّيعة في أنحاء العالم الإسلامي من جراء وصول الأيدي الخفيّة للحرب النّاعمة من قبل دول الكفر العالمي.

وعلى الرَّغم مِنْ أنّ سماحته كان قليل الكلام وأنّ أسلوبه كان الاختصار جدّاً في الكلام والمراسلة ـ ومن يعرف سماحته يشهد له بذلك ـ ولكنّه كان في ظروفٍ مهمّة تتعلّق بمصالح الإسلام عموماً والتّشيّع خصوصاً، يبعث برسائل تتضمّن توجيهات مهمّة إلى كبار زعماء الشّيعة مثل آية الله السّيد الخميني(قدّس سرّه) والمرشد الأعلى للثّورة آية الله السيّد الخامنئي (حفظه الله)، بحيث كانت هذه الرّسائل والتّوجيهات تحظى باهتمام بالغ من قبل المرسَل إليهم، ولكن لم نتعرّض لتفاصيل تلك الرّسائل حفاظاً على الأمانة وخصوصيّة تلك الرّسائل.

كما و كان المرشد الأعلى للثورة آية الله السيد الخامنئي (حفظه الله) يكنّ مودّةً حميمةً و حبّاً عميقاً لشيخنا المقدّس (البالغ مناه) و يعتقد به اعتقاداً راسخاً، حيث كان كثيراً ما يأتي إلى بيت الشيخ البهجة في مدينة قم المقدسة لزيارته و الاستفادة من محضره، و لقد بدا التأثر العميق على سماحة السيد الخامنئي (حفظه الله) برحيل الشيخ المقدس البهجة (البالغ مناه) بحيث نعاه بكلمات لم ينع أحداً بمثلها، و لم يقل في أحد نظيرها، نابعةٍ من صميم القلب المتألم لفقد العالم الفقيه المتألّه، الشخصيّة الفذّة الجامعة بين العلم و العمل، و التي لم يأت التأريخ لها بمثيل، حيث قال:

« ... و هذا مصاب كبير و خسارة لا تنجبر بالنسبة لي و لجميع محبّي هذا الرّجل العظيم. ثُلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء. ذاك العظيم الّذي كان يعدّ من أبرز مراجع التّقليد المعاصرين، كان أستاذاً كبيراً في الأخلاق و العرفان، و منبعاً للفيوضات المعنوية الّتي لا تنقطع أيضاً. لقد كان القلبُ النّيرُ النّقيُ لذاك الورع التّقي مرآةً مشرقة و مصقلةً بالإلهام الإلهي، و كان كلامه المعطّر دليلَ فكر الوالهين و السالكين و عملهم.

إنّني أتقدّم بتعازيّ الحميمة لساحة حضرة بقيّة الله أرواحنا فداه، و أتقدّم بالتعازي إلى حضرات العلماء الأعلام و المراجع العظام و إلى تلامذته و محبّيه و المستفيضين من نَفَسِهِ المفعم، و لا سيما أهل بيته الكرام و أولاده الموقّرين، و أسأل الله تعالی السلوان لنفسي ولباقي المفجوعين، و أسأله الرّحمة و المغفرة للرّوح المطهّرة لذاك العظيم ... ».

نعم، فلقد كان آية الله السيد الخامنئي يعدّ فقد الشيخ (البالغ مناه) مصيبةً لا تنجبر بالنسبة له، و لقد رجا من الله أن يلهمه السلوان لعظم المصيبة التي مني بها الإسلام، و عزّى نفسه برحيل الشيخ المقدّس (البالغ مناه).

فقد كان سماحته على الرّغم من انقطاعه الكامل إلى الله تعالى ومقاماته العلميّة والعرفانيّة العالية لم تكن تغيب عنه قضايا الشّيعة في أنحاء العالم، وكلّ ما يتعلّق بأُمورهم المصيريّة، وكثيراً ما كان يقدّم المشورة والتّوجيهات الاستراتيجيّة الّتي تنمّ عن عمق نظر سماحته واطّلاعه على أدقّ التّفاصيل على رغم عدم متابعته لوسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة والمقروءة مطلقاً.

وممّا يدلّ على ذلك أنّه في أثناء العدوان الإسرائيليّ الغاشم على الشّعب اللّبناني ولا سيما على شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) في الجنوب، وفي ظروف صعبة جدّاً، بعث سماحة آية الله الشّيخ البهجة (البالغ مناه) برسالة شفهيّة عبر أحد الوسطاء إلى زعيم الشّيعة في لبنان السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) يأمرهم فيها بالثّبات ويبشّرهم بالنّصر، وكان هذا في أوائل أيّام حرب تمّوز، الأمر الّذي كان على خلاف ما هو ظاهر من نتائج متوقّعة للحرب، ولكن كان النّصر والغلبة للمقاومين الشّيعة، وقد أفصح عن ذلك الأمين العام للمقاومة بقوله:

«إنّ سماحة الشّيخ البهجة قد بشّرنا بالنّصر في حين أنّه قد زاغت أبصار البعض، وبلغت القلوب الحناجر!».

وأيضاً مما يدلّ على مدى اهتمام سماحته بشؤون الشّيعة وعلمائهم وقياداتهم، هو أنّه عندما أرسل سماحته برسالة فوريّة إلى زعيم الشّيعة في لبنان السّيد حسن نصر الله (حفظه الله)، الّتي كانت تتضمّن دعاءً للحفظ والوقاية، وأيضاً أوصى سماحته بأن يبلغوه بالمواظبة على هذا الدّعاء بشكل يومي من حين وصول الرّسالة، الأمر الذي كان محلّ استغراب لنجل سماحة الشّيخ(قدّس سرّه)، بسبب إرسال سماحة الشّيخ البهجة (البالغ مناه) لهذه الرّسالة وفوريتها دون أيّة مقدّمات، ولكن ما تبيّن بعد يومين من وصول هذه الرسالة للسيّد حسن نصر الله، أنّه كان هناك خطرٌ كبيرٌ يهدّد زعيم الشّيعة في لبنان، فكان سماحته ومن مبدأ حرصه واهتمامه بقضايا الشّيعة المصيريّة قد قام بتصرّف دعائيّ وتكويني لدفع ورفع مكيدة الأعداء عن شخصيّةٍ يشكِّل الخطرُ عليها خطراً على الشّيعة في تلك البلاد.

فتلك الأمور لا يعرفها إلّا خواصّ الخواصّ،لأنّ سماحته كان يتهرّب من الشّهرة وكافّة وسائل الإعلام، كما كان يشترط على الزّعماء ألّا يذكروا اسمه في المحافل والأوساط السّياسيّة والإعلاميّة، لهذا فقد بقي كنزاً مخفيّاً لا يعرفه بعظمته وشأنيّته الواقعيّة إلا ثلّة من خواصّ الخواصّ.

نعم، لقد منح الله جلّ جلاله لعبده الصالح الشّيخ البهجة من نوره ما جعله مشكاة للآخرين، يفيض عليهم من المعارف الربّانية في كلّ ما يلزمهم من أُمور حياتهم، بل إنّ آية الله الشّيخ المصباح اليزدي يقول: إنّ المحفّز الأكبر لمتابعته للأمور الاجتماعيّة كان هو توجيهات سماحة الشّيخ المقدّس البهجة، ويضيف:

«لقد أعطى الله سبحانه وتعالى لسماحته صفاتٍ وقابليّاتٍ ذاتيّةً خاصّةً به وهي ليست صفاتٍ اكتسابيّة بل هي هبةٌ من الله تعالى وهي أنّه يملك فطنةً وفراسةً خاصّةً في المسائل الفرديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، ويملك ذكاءً ودقّةً عالية جدّاً ممّا يدفع المرء إلى التّعجّب من أنّه كيف يمكن لشخصٍ غارقٍ في المطالعات العلميّة والأُمور العباديّة أن يملك دقّة كهذه في المسائل. وربّما يعتقد هؤلاء الّذين لم يروه إلا في حالات العبادة والمطالعة والتّدريس أنّه لم يكن يهتمّ بالأُمور السّياسيّة لكن أقول لهم: لقد كان سماحة الشّيخ هو المُحفّز الأكبر ـ على الأقلّ لي أنا ـ لِأن أتوجّه إلى المسائل السّياسيّة والاجتماعيّة»[7].

ويقول آية الله الشيخ محمود أمجد في حقّ سماحته:

«هذه الطّائفة من العلماء هم أهل الكياسة، و«المؤمن ينظر بنور الله، وسماحته عارف بروح السّياسة، وإذا توجّه إلى هذه العوالم، فإنّه يفهم أكثر من الجميع»[8].

فكان سماحته عندما يبدي نظراً أو رأياً في مسألة ما فلا يبدي إلا عين الصّواب في ذلك، فَتُخَمِّنُ أنَّه يتابع و يقرأ تفاصيل المحلّلين الّتي قد أغناه الله عنها بالنظرة الإلهيّة النورانيّة الّتي يرى فيها ما لا يمكن للآخرين رؤيته، فكان رضوان الله تعالى عليه يقول: «كان هناك البعض يتابعون وسائل الإعلام و الصّحف و لكنّهم كانوا لا يدرون ما حصل بالأمس، و كان هناك البعض لا يتابعون وسائل الإعلام و لا الصّحف، و لكنّهم كانوا يُخبِرون عمّا سيحصل غدا!!».

و يبرز عمق اهتمام سماحته بالقضايا المصيريّة للمؤمنين في شتّى أنحاء العالم في السنوات الأخيرة من حياة سماحته المباركة، حيث كان العراق يعيش ظروفاً مأساويّة و تفجيراتٍ يروح ضحيّتها يومياً المئات من الأبرياء، لا سيما المناطق المشتملة على المراقد المقدّسة، فكان سماحته عندما يسمع بأخبار التفجيرات و مقتل الأبرياء ـ و إن كان عددهم قليلاً ـ يتألّم كثيراً لذلك، و يظهر التألّم على ملامح وجهه بشكل واضح و يوثّر ذلك في أعماله اليوميّة، و يشهد بذلك العلماء في لجنة الاستفتاءات، بحيث إنّ سماحته إذا كان في الأيام العادية يجيب على عشرة استفتاءات فإنّه يجيب في أيام وقوع مثل تلك الحوادث فقط على سؤالين أو ثلاثة. و كان نجله الشيخ علي البهجة يقول: كنت أمنع وصول أخبار كهذه إلى سماحته، و طلبت من لجنة الاستفتاءات أيضاً ألّا يخبره أحد منهم بهذه الحوادث، و لكن لم نكن ندري من أين كانت تصله أخبار تلك الحوادث بحيث كان يظهر التفجع واضحاً على سماحته.

فرضوان الله تعالى على الشيخ المقدّس الأب العطوف الّذي كان يحمل همّ الأمّة و يفعل ما بوسعه لدفع الابتلاءات عن المؤمنين في أنحاء العالم على منهج سادته و أوليائه أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين الّتي لا يستوعبها إلا من ألقى السّمع و هو شهيد.

 

[1] ينقل الشّيخ علي البهجة نجل سماحة آية الله الشّيخ البهجة: أني أذكر قبل سنة ١٣٤٢ هـ . ش جاء آية الله السيد الخميني و الذي كان يقال لسماحته وقتها «الحاج السيد روح الله» للقاء والدي، ففتحت له الباب و دخل سماحته و جلس في الحجرة، و بدأ والدي بقراءة سورة الصافات (حيث كان ملتزماً بأن يقرأ هذه السورة أيام الجمعة) و بعدها ذهب إلى الحجرة التي كان يجلس فيها سماحته.

[2] بهجت عارفان در حديث ديگران، ص ١١٢.

[3] بهجت عارفان در حديث ديگران، ص ١١٢.

[4] زمزم عرفان، ص ٢٦٥.

[5] فريادگر توحيد، ص ١٨٠.

[6] كتاب زمزم عرفان، ص ٨.

[7] بهجت عارفان در حديث ديگران، ص ٥٩.

[8] بهجت عارفان در حديث ديگران، ص ١٩٤.