بهجة مكارم الأخلاق

إنّ من أبرز سمات وصفات سماحة الشّيخ البهجة (البالغ مناه) والّتي لم تكن خافية على كلّ من عاشره أو عاصره، كانت هي الزّهد وبساطة العيش.

فلقد كانت رؤية سماحة آية الله البهجة تذكّر الإنسان بالله حقّاً، وتزعج المرء من الدّنيا الدنيّة وكان فعلاً مصداق الرّواية: «جالسوا من يذكّركم الله رؤيته ولقاؤه، فضلاً عن الكلام»[1] لِما يبرُزُ من شخصيّته من الزّهد والتّقوى وبساطة العيش، فقد كان يمشي بين النّاس وروحه معلّقة بالمحلّ الأعلى، وكانت حياته كحياة الأنبياء (عليهم السّلام)، حيث لم يعيروا للدّنيا طرفاً.

فقد كان سماحته خفيف المؤونة، خشن المعيشة، ولم يكن يهتمّ بنوعيّة ملبسه أو مأكله. فلم يكن سماحته يصرف من سهم الإمام على الرّغم من أنّ مفاتيحه كانت بيده، وغيرها من كنوز وأموال طائلة كانت تحت تصرّفه، ولكنّه عَبَرَ مياه هذا البحر دون أن تمس رطوبتها قباءه، بل حتّى الهدايا الشّخصيّة وأمواله الخاصّة وما يأتيه من النّذورات الّتي ينذرها الآخرون لسماحته، لم يكن يصرفها على نفسه أو أفراد أسرته، ولم يشتر بها داراً أو عقاراً بل كان يصرفها في وجوه الخير والأمور الشّرعيّة الخاصّة. ولم يكن هذا فقط عندما أتته المرجعيّة بل كان هذا ديدنه أيّام دراسته في النّجف الأشرف، وفي عنفوان شبابه. حيث ينقل العالم الكبير المرحوم السّيد عبّاس الكاشاني(قدّس سرّه):

«نقل لي أحد الكبار أنّ سماحته [الشّيخ البهجة] لم يكن يصرف من سهم الإمام المبارك، وقد أكّد هذا الأمر عدّةٌ من الفضلاء»[2].

إنّ سماحته من حين دخوله قم قضى ستّة عشر عاماً من إقامته في تسعة بيوت مستأجرة، والّتي كانت خمسةٌ منها غير مستقلة تماماً لسماحته، وإنّما كان مستأجراً لغرفتين منها فقط[3]، إلى أن أتى أحد أقاربه والّذي كان له رئاسة في سوق طهران فأراد -وبإشارة من المرجع الكبير السيّد البروجردي (قدّس سرّه)- أن يشتري له بيتاً فوافق سماحته على شراء البيت الأرخص ثمناً من بين البيوت الّتي عرضوها عليه، وكان بيتاً صغيراً جدّاً في حي «أرك»، وكان هذا المنزل محلّ تدريسٍ له ولإقامة صلاة الجماعة لسنوات متمادية، إلى أن اضطر سماحته إلى نقل مكان درسه وصلاة جماعته إلى مسجد الفاطميّة بسبب ضيق البيت وإلحاح الطّلبة والمصلّين[4].

فهذا الرّجل العظيم وصاحب المرجعيّة المرموقة، والّذي كان بيده بيت المال، كان يعيش في هذا البيت القديم والّذي كاد أن يقع سقفه، ولقد كان محلاً لسكناه على مدى عدّة عقود من الزّمن[5]، ولكن عندما كان يصرّ عليه الآخرون[6] ويترجّونه ويقدّمون استعدادهم التّام للقيام بتقديم بيت أفضل لسماحته كان يقول مجيباً:

«إنّ المرحوم السيّد أبو الحسن الأصفهاني (قدّس سرّه) كان يدير أمور المسلمين من غرفة صغيرة، ونفس هذا المنزل يكفينا [ويكفي] ولمراجعاتنا!».

إلى أن صار بيته هذا في ضمن المخطّط الجديد للمدينة فتمّ شراؤه وهدمه[7] من قبل بلديّة قم فاضطُرّ سماحته أن ينتقل في السّنوات السّت الأخيرة من عمره المبارك إلى بيت آخر في شارع «إرم».

وينقل الشّيخ محمّد هادي الفقهي:

«لقد كان زهد سماحته زهداً واقعيّاً، لا تصنّعيّاً، ذهبنا لخدمته في الفترة الأخيرة، لا زالت السّجادة الصّغيرة هي نفسها الّتي كانت موجودة قبل ثلاثين سنة، هذا العظيم هو من أولياء الله الّذين صغرت الدّنيا في عينهم»[8].

وهذا غيض من فيض من زهد سماحته. وأمّا في حرصه على لحظات عمره وكيفيّة الاستفادة منها فهذا ما لم يكن خفيّاً منذ نعومة أظفاره، وكان على عهده بأن لا يهدر آناً واحداً من آنات حياته وأن لا يشغلها بغير طاعة ربّه، حيث يقول أحد طلبة سماحته القدماء والمقرّبين جداً من سماحته، والّذي كان كثيراً ما يتمعّن ويحقّق في أحوال سماحته:

«يظهر من طريقة معاشرة سماحته أنّ الوقت ذو قيمة لدى سماحته كثيراً، ولم يكن ليرضى أن يتلف حتّى خمس أو ست دقائق من دون فائدة، على مرّ ثلاثين عاماً الّتي عرفت فيها سماحته لم أكن قد رأيته أبداً قد خرج خلالها ثلاثين ساعة من أجل التّنزّه، مع أنّه كان قد دعي كثيراً ولكنّه لم يكن ليقبل وكان يعتذر».

 

وأحد المواقف الّتي تدلّ على ذلك ما ينقله سماحة الشّيخ علي البهجة نجل سماحة آية الله الشّيخ البهجة (البالغ مناه):

«في أحدى سفرات المرحوم الوالد، طلب الشّهيد المطهّري من والدي أن يسافر معه إلى مدينة فريمان مسقط رأس الشّهيد المطهري، حتّى يكونوا معاً هم والمرحوم العلّامة الطّباطبائي (رضوان الله عليه) لمدّة يومين أو ثلاثة أيام، لكن والدي رفض الدّعوة.

ربّما بعد ثلاثين سنة من ذاك اليوم، وفي أواخر أيام حياة سماحته، وفي أحد الأيّام الّتي لم يكن المرحوم والدي يمتلك فيها القدرة على الحضور في حرم الإمام الرّضا (عليه السّلام)، كان يزور من داخل السّيّارة مقابل رواق آزادي، فالتفت إليّ وقال: نحن أيضاً في أحد الأيّام رفضنا دعوة الشّيخ المطهّري (رضوان الله عليه) بالذّهاب إلى مدينة فريمان، وكان السّبب أنّه لو كنّا قد قبلنا يومها دعوة الشّيخ لكنّا مجبرين على ترك زيارة الحرم المطهّر للإمام الرّضا (عليه السّلام)، لهذا السّبب رفضت طلب الشّيخ المطهّري رحمة الله عليه».

وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ سماحته كان يبقى بجوار الإمام الرّضا (عليه السّلام) في مدينة مشهد لمدّة ثلاثة أشهر في العطلة الصّيفيّة، وكان يذهب يومها مرّتين للزيارة، صباحاً ومساءً، ومع ذلك لم يكن لتسمح له نفسه العاشقة لأهل البيت (عليهم السّلام) أن يترك زيارة الإمام الرّضا (عليه السّلام) لثلاثة أيّام فقط.

وهذه القضيّة تدلّ على أمرين: الأوّل: شوقه ولهفته للأئمّة الأطهار (عليهم السّلام)، وكان في أثناء وجوده في الحرم يرى نفسه في الجنّة فعلاً.

الثّاني: يدلّ على أهميّة الوقت بالنّسبة لديه بأن لا يصرف لحظات عمره إلّا فيما هو الأفضل له، وإلّا فإنّ السّفر لفريمان لم يكن مكروهاً، بل ربّما كان مستحبّاً كونه إجابةً لدعوة المؤمن، لكنّه اختار المستحبّ الّذي هو أعلى درجة، والّذي يعتبر وسيلة لتأدية الواجب، ألا وهو مودّة أهل البيت (عليهم السّلام).

وأمّا بالنّسبة إلى كراماته ومقاماته المعنويّة المميّزة فكما كان سماحته يكتم مقاماته العلميّة كذلك كان دأبه في كتمان الأمور المعنويّة والكرامات الّتي منحه الله إيّاها، فكان يحرص على عدم معرفة الآخرين بما يظهر له من كرامات، وهكذا كانت سجيّته في المعرفة الإلهيّة، فرغم كونه متّشحاً برشحات وحالات عرفانيّة استثنائيّة منذ نعومة أظفاره، وامتيازه بمقامات معنويّة عالية، إلا أنّه لم تصدر عنه أيّ حركة أو علامة تنبّىء عن ذلك الحماس والهيام الّذي كان يعيشه.

وكان يتكتّم أشدّ الكتمان على الفيوضات المعنويّة الّتي تُسنح له في محضر أساتذته العارفين من العلماء الرّبّانيّين. ولكن كان يكفي أن ينظر المرء إلى ملامح وجهه ليتذكّر الله جلّ وعلا دون تردّد، وينقطع عن هذه الدّنيا الفانيّة ويتوجّه إلى الآخرة الباقية. وفي هذا ينقل آية الله الشّيخ جواد الكربلائي:

«إنّ سماحته يتجنّب الاِجتماعات ويتكتّم على معارفه الإلهيّة. حتّى ورد أنّه كان هناك أشخاصٌ يتردّدون مدّةً من الزّمان على سماحته وعلى رغم أنّهم استفادوا كثيراً من سماحته لكن على أثر كتمانه أو عدم تعاطيه معهم بحرارة بدؤوا بعد مدّةٍ يبتعدون عنه. على أيّة حال هو شخصٌ كتومٌ جدّاً خاصّةً فيما يتعلّق بأحواله الشّخصيّة وما أفاض الله تعالى عليه من ألطافه الخاصّة»[9].

وينقل الشّيخ محمد هادي الفقهي:

«إنّ سماحته شخص كتوم، كان لدينا أساتذة عندما كنّا نصل لخدمتهم ونطلب منهم بعض المسائل فكانوا لا يرفضون ويبيّنون. أمّا سماحته مع أنّه كان يرى أنّ بعض الأصدقاء يطلبون، ولكن كان عنده حالة بأن لا يتحدّث حول نفسه أبداً، على عكس بعض العلماء الآخرين، على سبيل المثال، آية الله القوچاني وعندما جاء إلى إيران، صار هناك حديث حول بعض المسائل في منزل أحد الأصدقاء، وكان سماحته يجيب، وفي الختام قال: راسلوني، وأنا أعطيكم أجوبة أسئلتكم. العلّامة الطّباطبائي(قدّس سرّه) أيضاً كان كذلك»[10].

أجل فلقد كان سماحته في قمّة الكتمان والابتعاد عن الشّهرة، ولم يكن ذلك إمساكاً من سماحته عن الآخرين بل كان يعمل وفقاً لوظيفته الشّرعية، وفي هذا المضمار ينقل آية الله الشّيخ محمود أمجد أن سماحة آية الله السيّد بهاء الدّيني قد طلب من سماحة آية الله الشّيخ البهجة أن يظهَرَ ويبرز لأنّه أجدر وأليق بذلك، ولكن كان جواب سماحة الشّيخ البهجة: «أنا معذور!».

 

ومن الجدير بالذّكر أنّ سماحته لم يقصّر في بثّ العلوم والمعارف الحقّة ومناهج السّير والسّلوك إلى الله وفق ما خطّه أهل البيت (عليهم السّلام) ولكن قلّ الطّلاب الحقيقيّون للمعرفة الإلهيّة، وإلّا فإنّ كلمة واحدة من توجيهات سماحته تكفي للمسيرِ كاملَ عمر الإنسان وإن كان لألف سنة.

وينقل الشّيخ محمد هادي الفقهي:

«في إحدى المرّات رأيت عدّة منامات وصار لديّ مشكلة، ذهبت لمحضر العلّامة الطّباطبائي(قدّس سرّه)، وتحدّثت له، ففرح سماحته كثيراً وقال لي: هذا علامة على المسألة الفلانيّة، فعلاً لا تستعجل، تمهّل. وبيّن لي مسائل أخرى. بعد سنة، وأيضاً من نفس تلك المشكلة كنت غير مرتاح أبداً. أحد الأيّام وصلت لدرس آية الله الشّيخ البهجة قبل الجميع. جاء سماحته، لذا اغتنمت الفرصة وقلت لسماحته: شيخنا، حدثت معي هذه المشكلة ماذا أفعل؟ سماحته لم يعتن أبداً، وحتّى لا أغتر بنفسي إلتفت للنّافذة وطرقها وأشار لأبنائه الّذين كانوا في صحن البيت وتحدّث لأحدهم، ثمّ توجّه إليّ وقال: «هذا طبيعيّ، وهو يتعلّق بالمزاج!. ولكن بما أنّني كنت معتقداً بالعلّامة الطّباطبائي وبآية الله البهجة اعتقاداً كاملاً، شعرت بنظري، بأنّ جواب العالمين الكبيرين غير متلائم، وتحيّرت فعلاً، من طرفٍ كنت أرجّح رأي العلّامة الطّباطبائي الّذي كان أعرف بجريان أحوالي، وكنت قد بيّنت جزئيّات المسائل لسماحته، ومن طرف آخر رأي آية الله البهجة، ولكن اللّافت هو هذا، أنّ العلّامة الطّباطبائي بعد سنة قال لي: «هذا شيء طبيعيّ، ويتعلّق بالمزاج!»[11].

وينقل آية الله الشّيخ محمود أمجد:

«إنّ آية الله البهجة من مفاخر عصرنا، الأشخاص الّذين يعرفونه، يعلمون أن سماحته في أوج العلم والمعنويّة، أنا أعتقد أنّ سماحته لا نظير له في العلم والمعنويّة، بتعبيرٍ آخر: سماحته مَلَكٌ على الأرض، يجب الاستفادة من وجوده، فسماحته قد استشعر المعنويّة في طفولته، وكان منذ شبابه أهل سيرٍ وسلوك»[12].

وكان يقول آية الله السيّد بهاء الديني(قدّس سرّه) في حقّ سماحته:

«إنّ أغنى رجل في العالم من الناحية المعنوية الآن، هو الشيخ البهجة»[13].

ويضيف أية الله الشّيخ محمود أمجد أنّ العلّامة الطباطبائي(قدّس سرّه) كان يصف الشّيخ البهجة قائلاً:

«إنّ سماحته العبد الصالح»[14].

وينقل آية الله الشيخ محمّد الصّادقي الطّهراني(قدّس سرّه) صاحب تفسير الفرقان:

«من النّاحية المعرفيّة والعمليّة والتّقوى لم يُرَ من سماحته [قد ارتكب] حتّى مكروهاً واحداً أو ترك [عملاً] مستحبّاً واحداً».

وعلى الرّغم من أنّه كان صاحب مرجعيّة مرموقة ولكن كانت حياته كأبسط ما يكون ويُتصوّر، وكانت معيشته كأحد الطّلبة العادييّن جدّاً بل أقلّ من ذلك، ولم يكن عنده تكلّف أو رسميّة في التّعامل مع الآخرين، بل لم يكن الغريب ليميّزه عن غيره عندما يدخل عليه في مجلسه.

ينقل أحد علماء طهران:

«ذهبت في أحد الأيّام إلى منزل آية الله الشّيخ البهجة، طرقت الباب ففتح لي الباب رجل مسنٌّ لا تكلّف في هيئته، فتصوّرت أنّه أحد الخدم في المنزل، فقلت له: لديّ عمل مع آية الله العظمى الشّيخ البهجة، فقال: تفضّل، فقلت: لديّ عمل مع نفس سماحته، فقال: تفضّل، هذا ما هو ميسور لنا! في حين أنّني لم أتوقّع أبداً أنّ هذا الشّخص هو سماحة آية الله العظمى الشّيخ البهجة، وإنّما حسبت أنّ الخادم غير حاضر أن يدخلني لمقابلة سماحته، النّتيجة أنّني رجعت بدون أن أطرح مسألتي على سماحته، فقلت في نفسي: سأذهب إلى المسجد، وسماحته سيأتي أيضاً، فأراه بعد الصّلاة وأطرح مسألتي على سماحته، ولكن عندما شاركت في صلاة الجماعة رأيت أنّ نفس ذلك الشيخ المسنّ قد أتى وهو مرتدٍ زيّ رجال الحوزة، فوصل إلى المحراب وشرع بالصّلاة، وعندما انتهت صلاة الجماعة فسألت شخصاً بجانبي: ألا يأتي سماحة الشّيخ البهجة نفسه للصّلاة؟ فأجابني: هذا هو نفسه آية الله الشّيخ البهجة. فاستغربت كثيراً، إذ أنّه لم يكن قد جعل لنفسه ما يميزه من ناحية الشّمائل الظّاهريّة، وعمل سماحته هذا أشار لي إلى أخلاق النّبي الأكرم (صلى الله عليه و آله)، الّذي لم يكن أحد ليميّزه عن أصحابه الجالسين معه من حيث الظّاهر»[15].

أجل، فقد كان سماحته ذا خلق جميل وكأنّ أخلاق سماحته هي مختصّةٌ فقط بمن اقتفى مسار حياته ومنهجه من أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام)، بل كأنّ تلك الأخلاق العالية أصبحت منسيّةً بحيث أنّه لم يكن هناك أحدٌ قدّم له خِدمةً وأخذ أجرته على عمله إلّا وقد أصبح له في قلب هذا العارف الكبير حصّة من الدّعاء بقدر يفوق الخدمة الّتي قدمها لسماحته، وكلّ من كان له تعاملٌ مع سماحته يرى ذلك، بل كان الآخرون يندهشون من الطّبع الجميل والنّادر لدى سماحته بحيث إنّ سلوك سماحته مع الآخرين ليس موجوداً لدى أحد في أيّامنا هذه، وفي هذا السّياق ينقل نجل سماحته:

«الشّيء العجيب الّذي رأيته من سماحته كان هذا، أنّه في قضية العمليّة الجراحيّة لعين سماحته في حدود سنة ١٤٢٢ هـ . ق حيث لم يرض الطّبيب بأن يأخذ المال، لكن سماحته قد أصرّ على إعطائه أجرته، وبعد العمليّة وفي أثناء مراجعة الطّبيب، قال سماحته له: «أيّها السيّد! سواء أخذتم الأجرة أم لم تأخذوها فلا فرق في ذلك؛ أنا سأدعو لكم، كل الأطّباء الّذين كان لهم يد في علاجي طوال حياتي، إلى الآن لم أنسهم!. هذا الكلام من سماحته كان عجيباً جدّاً بالنّسبة لي، حيث إنّ الطّبيب قد أخذ أجرته وذهب، ولكنّ سماحته لم يكن قد نسيه! هكذا كانت أخلاقه».

نعم لقد كانت أخلاق سماحته على نحو يتعجّب الآخرون من حلاوة طبع سماحته، حيث يضيف نجل سماحته قضيّةً أخرى:

«أذكر أنّه في سنة ١٣٩٠ أو ١٣٩١ هـ . ق، في سفرنا الّذي كان إلى مدينة مشهد المقدّسة استأجرنا غرفةً، اللّيلة بعشرة توامين، وبقينا فيها مدّة عشرين ليلةً، وأعطاه سماحته مائتين وعشرين توماناً يعني أضاف له عشرين توماناً زيادة، حتّى أنّه يوماً ما قد أتى سماحة آية الله السيّد الميلاني لزيارة سماحة والدي في نفس هذا البيت، فتعجّب صاحب الغرفة أنّه كيف يأتي آية لله الميلاني لزيارة هذاالشّيخ، والأمر اللّافت والّذي يُعلِّمُ الآخرين الأخلاق هو هذا،أنّ سماحته لم يكن ينسى اسمَ صاحب هذا البيت وغيره من أصحاب البيوت ممّن استأجر عندهم، في حين أنّه يحتمل أنّ صاحب البيت كان لا يعرف سماحته مطلقاً، بل ربّما إذا رآه لم يكن ليذكره أو يسلّم عليه، وإلى بضع سنوات سابقة، والّتي كانت والدتي تتمكّن فيها من المشي كان يقول لها: «اذهبي واسألي عن أحوالهم!. كنت بعض الأحيان أمزح مع والدي وأقول: على مبنى سماحتكم يجب أن أذهب وأجد أسماء الخبّازين وكلّ الأشخاص الّذين قد قاموا بعمل ما لنا، وأخذوا أُجرتهم، لأسأل عن أحوالهم، كان لدى سماحته روحيّةٌ لطيفة وأخلاقٌ عجيبة»[16].

وإحدى أهمّ الخصائص الأخلاقيّة لدى سماحته أنّه لم يكن يرى نفسه شيئاً، ولم يسمع منه أحدٌ كلمة «أنا»[17] أو «أكون» مطلقاً ولم يسمع منه كلاماً حول مقاماته العلميّة أو الأخلاقيّة، وكذلك لم يقل يوماً كلمة «درسي» ولم يطلق على أحد من طلبته بـ «تلميذي»، وإنّما يعبّر عن الدّرس بالمباحثة وعن تلميذه بالمُباحِث،و ذلك على الرّغم ممّا كان يطفح من جوانب شخصيّته الفذّة.

 

[1] مستدرك الوسائل، ج ١٢، ص ٢٠٤.

[2] بهجت عارفان در حديث ديگران، ص ٤٤.

[3] ينقل آية الله المصباح اليزدي: «كان سماحته قد استأجر منزلاً بجنب المدرسة الحجّتيّة و انتقل فيما بعد إلى مكانٍ آخر، و استأجر بيتاً صغيراً في أوّل شارع «چهارمردان»، كان البيت يتألّف من غرفتين فقط، فكان يسدل ستاراً وسط الغرفة الّتي كنّا نحضر فيها، و كانت عائلته تعيش وراء ذلك السّتار. إنّها حياة بسيطة حقّاً و بعيدة عن أيّ مظهرٍ من مظاهر التّرف و التّكلّف، حياة نورانيّة و معنويّة محضة». بهجت عارفان در حديث ديگران، ص ٥٢.

[4] ينقل سماحة الشّيخ المصباح اليزدي: «مضت فتراتٌ طويلة، و بعد حوالي الثّلاثين سنةً و نيّف انتقل سماحته إلى البيت الّذي هو فيه الآن، بعدها قاموا بدعوته إلى مسجد الفاطميّة و صار ذلك المكان محلّاً لاجتماع كلّ من يحبّ الصّلاة خلف سماحته، و حتّى الآن مازال يُقيم صلاة الجماعة كلّ يومٍ في الصّبح و الظّهر و العشاء في ذلك المسجد، و في النّهاية نقل درسه من المنزل إلى هناك أيضاً، و كذلك صارت اللّقاءات و مناسبات الأعياد و العزاء كلّها تُقام في هذا المسجد؛ لأنّ منزله الصّغير كان يتألّف من غرفتين فقط، و لم يكن يتّسع لهكذا مناسبات. هذه الحال لم تتغيّر حتّى بعد تصدّيه للمرجعيّة و كانت لقاءاته و اجتماعاته كلّها تُقام في هذا المسجد». فريادگر توحيد، ص ٦٧.

[5] ينقل سماحة آية الله الشّيخ الگرامي: «مازال سماحته يسكن في نفس البيت والخرِبة الّتي يبدو عليها أنّ سقفها سينهار في أيّ لحظة. كذلك كان سماحة الشّيخ البهجة يملك أراضي كثيرةً في أطراف مدينة فومن و جميعها سُلبت منه في الماضي، و مهما أصرّوا عليه أن يقدِم على عملٍ ما حتّى لا يفقدها كان يقول: «وما قيمتها، فليأخذوها!» و على الظّاهر أنّ ولده أيضاً قال له : على الأقلّ أعطني وكالةً بها حتّى أذهب لأستعيدها. لكن سماحة الشّيخ قال مرّة أخری: و ما قيمتها!». فريادگر توحيد، ص ٨٩.

[6] ينقل سماحة آية الله الشّيخ المسعودي الخميني: «أرادوا أن يشتروا له منزلاً كذا مرّة لكنّه لم يكن يقبل. أنا بنفسي قلت له عدّة مرّات: هذا المنزل خربٌ و حتّى من النّاحية الشّرعيّة قد لا يصحّ العيش فيه. لكنّه لم يكن يعتني لكلامي و كأنّني لم أقل شيئاً». فريادگر توحيد، ص ١٢٤.

[7] وكان بعض العلماء يتحسّر على هدم هذا البيت و يقول: «إنّ رؤية هذا البيت تذكّر ببساطة حياة علماء المذهب الرّبّانيّين ، و كان يجب حفظه كمتحف يخلّد ذكرى العلماء لا سيما كالعالم المقدّس الشّيخ البهجة».

[8] بهجت عارفان در حديث ديگران، ص ١٢٣.

[9] بهجت عارفان در حديث ديگران، ص ٩٧.

[10] بهجت عارفان در حديث ديگران، ص ١٢٢.

[11] بهجت عارفان در حديث ديگران، ص ١٣١.

[12] بهجت عارفان در حديث ديگران، ص ١٩٢.

[13] برگي از دفتر آفتاب، ص ١١٢.

[14] نكته هاي ناب، ص ١٠١.

[15] فريادگر توحيد، ص ١٦١.

[16] زمزم عرفان، ص ٢٣٣.

[17] ينقل نجل سماحته أن سماحته لم يقل يوماً من الأيام كلمة «أنا» إلا في موقفين خاصّين فقط، و اقتضى الحال أن يقول هذه الكلمة وقتها.