ابتهاج الفقه بالفقيه البهجة

عند الكلام حول فقاهة عالم وزهده وتقواه وورعه ينبغي التأني والدّقة في ذلك حتّى لا يضيع حقُّ من له حقّ على المؤمنين من الفقهاء والربّانيين من العلماء، فتراث العلماء أمانةٌ لا ينبغي أن تقف عند يد من وصلت إليه، بل ينبغي نشرها، كونهم حجّة بيننا وبين الإمام الحجّة المنتظر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، والشّيخ البهجة (البالغ مناه) ـ وفي الفترة الّتي استقرّ بها في مهد الولاية والعلم أي النّجف الأشرف ـ كان حائزاً قصب السّبق في هذه الأمور العلميّة.

وفي هذا السّياق ينقل آية الله السّيد أحمد الفهريّ(قدّس سرّه):

«بالمشيئة الإلهيّة والربوبيّة، إنّ تَمَحُّضَ وتوغّلَ سماحتِه بالدّرس والتّدريس صار باعثاً لأن يصل سماحته درجة الاجتهاد الرّفيعة قبل زملائه والّذين وردوا إلى الحوزة معه بنفس المُدّة»[1].

ثم يضيف السّيد الفهري (قدّس سرّه):

«أذكر أنّني طلبت منه يوماً أن يدرّسني كتاب رسائل الشّيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، فقال لي في مَعْرِض الاعتذار: لقد قال لي آية الله العظمى الشّيخ الكمباني ـ نابغة العصر ذاك، والأجدر في أكثر العلوم ـ : إنّ التّقليد حرام عليك ويجب أن تعمل باجتهادك، لذلك أتحرّى المسائل التّي هي مورد ابتلاء لديّ، ولا مجال لديّ لأُقدِم على عملٍ آخر»[2].

كما أصبح سماحته بعد هذه المُدّة يعدّ من كبار المدرّسين للسّطوح العالية في الحوزة العلميّة في النّجف الأشرف. وممّا يدلّ على منزلته العلميّة السّامية وبنفس الوقت على شدّة تواضعه، ما ينقله في ضِمْنِ مجلسه الخطيب الجليل الشّيخ علي ابن المحدِّث القدير الشّيخ عبّاس القمّي (نوّر الله ضريحه) صاحب كتاب مفاتيح الجنان، أنّه في أثناءِ إلقائه خطبته دخل العالم الشّيخ البهجة (البالغ مناه)، وجلس في مكان عادي بين الحضور، ولما رأى الشّيخ علي أنّ الشّيخ البهجة (البالغ مناه) جلس بين النّاس وترك المكان المخصّص للعلماء والفضلاء[3]، أخذته الدّهشة وقال في خطبته:

«لقد درست الكفاية في النّجف الأشرف لدى الشّيخ البهجة، وسماحته كان يعدّ من علماء وأساتذة النّجف الأشرف!».

فكان من نشاطاته (قدّس سرّه القدّوسي) في النّجف الأشرف هو تدريس السّطوح العالية، لكن خفي أسماءُ بعض طلبته، بل كان سماحته يعرض عن الجواب تواضعاً إذا سئل عن ذلك، ولكن عرف بعض طلبته من خلال تصريحهم بأنفسهم، ومن المشهورين الّذين درسوا عند سماحته هم: آية الله العالم الربّاني السّيد عبد الكريم الكشميري (قدّس سرّه) حيث درس الرّسائل والسّطوح، الشّيخ علي ابن الشّيخ عبّاس القمّي(قدّس سرّه)، وآية الله السّيد مهدي الرّوحاني (قدّس سرّه)، وآية الله الشّيخ علي القرني (قدّس سرّه) الّذين درسوا الكفاية عند سماحته، وبعض طلبته أصبح صاحب رسالة عمليّة، ونكتفي دون ذكر الاسم.

وإضافة إلى تدريسه اشتغل هو والمحدّث الكبير الشّيخ عبّاس القمي(قدّس سرّه) في تأليف كتاب «سفينة البحار» وهذا كان لا يُعرف إلا بين الخواصّ، لعدم رغبة سماحته بالشُّهرة ولا تزال النّسخة الخطيّة موجودة بخطّ سماحته.

 

[1] نكته هاي ناب، ص ١٠٧.

[2] نكته هاي ناب، ص ١٠٧.

[3] و هذا كان دأب سماحته في الجلوس بين النّاس دون أن يعتني بالمكان المخصّص للعلماء، و ينقل الشّيخ علي حفظه الله نجل الشّيخ البهجة أنه ذات مرة أراد الذهاب لمجلس تأبيني لأحد المراجع العظام، فقال له والده الشّيخ البهجة: أنت تريد أن تحضر في هذا المجلس نيابة عن نفسك أو نيابة عنّي؟ فقلت له: نيابة عنكم! فقال أبي: إذن تجلس في مكان لا يرغب أحد في الجلوس فيه و لا تجلس في المكان المخصّص للعلماء!.